اَمّا بَعْدُ، فَاِنَّ الدُّنْيا قَدْ اَدْبَرَتْ وَ آذَنَتْ بِوَداع ، وَ اِنَّ الاْخِرَةَ قَدْ اَقْبَلَتْ وَ اَشْرَفَتْ بِاطِّلاع . اَلا وَ اِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمارُ، وَ غَداً السِّباقُ،وَالسَّبْقَةُ الْجَنَّةُ، وَ الْغايَةُ النّارُ (اَقُولُ: اِنَّهُ لَوْ كانَ كَلامٌ يَأْخُذُ بِالاَْعْناقِ اِلَى الزُّهْدِ فِى الدُّنْيا، وَ يَضْطَرُّ اِلى عَمَلِ الاْخِرَةِ لَكانَ هذَا الْكَلامَ. وَ كَفى بِهِ قاطِعاً لِعَلائِقِ الاْمالِ، وَ قادِحاً زِنادَ الإتِّعاظِ وَالإِزْدِجارِ. وَ مِنْ اَعْجَبِهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «اَلا وَ اِنَّ الْيَوْمَ المِضْمارُ، وَ غَداً السِّباقُ، وَالسَّبْقَةُ الْجَنَّةُ، وَالْغايَةُ النّارُ» فَاِنَّ فيهِ مَعَ فَخامَةِ اللَّفْظِ، وَعِظَمِ قَدْرِ الْمَعْنى، وَ صادِقِ التَّمْثيلِ، وَ واقِعِ التَّشْبيهِ سِراًّ عَجيباً وَ مَعنىً لَطيفاً وَ هُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «وَالسَّبْقَةُ الْجَنَّةُ، وَالْغايَةُ النّارُ» فَخالَفَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ لاِخْتِلافِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَ لَمْ يَقُلِ «السَّبْقَةُ النّارُ» كَما قالَ: «السَّبْقَةُ الْجَنَّةُ» لأَنَّ الإِسْتِباقَ اِنَّما يَكُونُ اِلى اَمْر مَحْبُوب، وَ غَرَض مَطْلُوب، وَ هذِهِ صِفَةُ الْجَنَّةِ، وَ لَيْسَ هذَا الْمَعْنى مَوْجُوداً فِى النّارِ، نَعُوذُ بِاللّهِ مِنْها، فَلَمْ يَجُزْ اَنْ يَقُولَ: وَالسَّبْقَةُ النّارُ، بَلْ قالَ: «وَالْغايَةُ النّارُ»، لأَنَّ الْغايَةَ قَدْ يَنْتَهى اِلَيْها مَنْ لا يَسُرُّهُ الاِْنْتِهاءُ اِلَيْها وَ مَنْ يَسُرُّهُ ذلِكَ، فَصَلَحَ اَنْ يُعَبَّرَ بِها عَنِ الأَمْرَيْنِ مَعاً، فَهِىَ فى هذَا الْمَوْضِعِ كَالْمَصيرِ وَالْمَآلِ، قالَ اللّهُ تَعالى: «قُلْ تَمَتَّعُوا فَاِنَّ مَصيرَكُمْ اِلَى النّارِ». وَ لايَجُوزُ فى هذَا الْمَوْضِعِ اَنْ يُقالَ: فَاِنَّ سَبْقَتَكُمْ (بِسُكُونِ الْباءِ) اِلَى النّارِ. فَتَأَمَّلْ ذلِكَ، فَباطِنُهُ عَجيبٌ، وَ غَوْرُهُ بَعيدٌ لَطيفٌ، وَ كَذلِكَ اَكْثَرُ كَلامِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَ فى بَعْضِ النُّسَخِ: وَ قَدْ جاءَ فى روايَة اُخْرى: «وَالسُّبْقَةُ الْجَنَّةُ» بِضَمِّ السِّينِ. وَالسُّبْقَةُ عِنْدَهُمُ اسْمٌ لِما يُجْعَلُ لِلسابِقِ اِذا سَبَقَ مِنْ مال اَوْ عَرَض. وَالْمَعْنَيانِ مُتَقارِبانِ، لأَنَّ ذلِكَ لايَكُونُ جَزاءً عَلى فِعْلِ الاَْمْرِ الْمَذْمُومِ، وَ اِنَّما يَكُونُ جَزاءً عَلى فِعْلِ الأَمْرِ الْمَحْمُودِ)