اِنَّ اللّهَ سُبْحانَهُ وَ تَعالى جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاءً لِلْقُلُوبِ، تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ، وَ تُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ، وَ تَنْقادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعانَدَةِ.
وَ ما بَرِحَ لِلّهِ ـ عَزَّتْ آلاؤُهُ ـ فِى الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ وَ فى اَزْمانِ الْفَتَراتِ عِبادٌ ناجاهُمْ فى فِكْرِهِمْ، وَ كَلَّمَهُمْ فى ذاتِ عُقُولِهِمْ، فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَة فِى الاَْبْصارِ وَ الاَْسْماع ِ وَ الاَْفْئِدَةِ، يُذَكِّرُونَ بِاَيّامِ اللّهِ، وَ يُخَوِّفُونَ مَقامَهُ، بِمَنْزِلَةِ الاَْدِلَّةِ فِى الْفَلَواتِ، مَنْ اَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا اِلَيْهِ طَريقَهُ، وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجاةِ. وَ مَنْ اَخَذَ يَميناً وَ شِمالاً ذَمُّوا اِلَيْهِ الطَّريقَ، وَ حَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ، وَ كانُوا كَذلِكَ مَصابيحَ تِلْكَ الظُّلُماتِ، وَ اَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهاتِ. وَ اِنَّ لِلذِّكْرِ لاََهْلاً اَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيا بَدَلاً، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْهُ، يَقْطَعُونَ بِهِ اَيّامَ الْحَياةِ، وَ يَهْتِفُونَ بِالزَّواجِرِ عَنْ مَحارِمِ اللّهِ فى اَسْماع ِ الْغافِلينَ، وَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَ يَأْتَمِرُونَ بِهِ، وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يَتَناهَوْنَ عَنْهُ، فَكَاَنَّما قَطَعُوا الدُّنْيا اِلَى الاْخِرَةِ وَ هُمْ فيها، فَشاهَدُوا ماوَراءَ ذلِكَ، فَكَاَنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ اَهْلِ الْبَرْزَخ ِ فى طُولِ الاِْقامَةِ فيهِ، وَ حَقَّقَتِ الْقِيامَةُ عَلَيْهِمْ عِداتِها، فَكَشَفُوا غِطاءَ ذلِكَ لاَِهْلِ الدُّنْيا حَتّى كَاَنَّهُمْ يَرَوْنَ ما لايَرَى النّاسُ، وَيَسْمَعُونَ ما لا يَسْمَعُونَ. فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فى مَقاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ، وَ مَجالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ، وَ قَدْ نَشَرُوا دَواوينَ اَعْمالِهِمْ، وَ فَرَغُوا لِمُحاسَبَةِ اَنْفُسِهِمْ عَلى كُلِّ صَغيرَة وَ كَبيرَة اُمِرُوا بِها فَقَصَّرُوا عَنْها، اَوْ نُهُوا عَنْها فَفَرَّطُوا فيها، وَ حَمَّلُوا ثِقَلَ اَوْزارِهِمْ ظُهُورَهُمْ فَضَعُفُوا عَنِ الاِْسْتِقْلالِ بِها، فَنَشَجُوا نَشيجاً، وَ تَجاوَبُوا نَحيباً، يَعِجُّونَ اِلى رَبِّهِمْ مِنْ مَقامِ نَدَم وَ اعْتِراف، لَرَاَيْتَ اَعْلامَ هُدًى،وَ مَصابيحَ دُجًى، قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلائِكَةُ، وَ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكينَةُ، وَ فُتِحَتْ لَهُمْ اَبْوابُ السَّماءِ، وَ اُعِدَّتْ لَهُمْ مَقاعِدُ الْكَراماتِ، فى مَقام اطَّلَعَ اللّهُ عَلَيْهِمْ فيهِ فَرَضِىَ سَعْيَهُمْ، وَ حَمِدَ مَقامَهُمْ، يَتَنَسَّمُونَ بِدُعائِهِ رَوْحَ التَّجاوُزِ، رَهائِنُ فاقَة اِلى فَضْلِهِ، وَ اُسارى ذِلَّة لِعَظَمَتِهِ. جَرَحَ طُولُ الاَْسى قُلُوبَهُمْ، وَ طُولُ الْبُكاءِ عُيُونَهُمْ. لِكُلِّ بابِ رَغْبَة اِلَى اللّهِ مِنْهُمْ يَدٌ قارِعَةٌ، يَسْاَلُونَ مَنْ لاتَضيقُ لَدَيْهِ الْمَنادِحُ، وَ لايَخيبُ عَلَيْهِ الرّاغِبُونَ. فَحاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، فَاِنَّ غَيْرَها مِنَ الاَْنْفُسِ لَها حَسيبٌ غَيْرُكَ.